الشر المطلق- فتنة القيم ومسؤولية الإنسانية

المؤلف: د. طه عبد الرحمن11.11.2025
الشر المطلق- فتنة القيم ومسؤولية الإنسانية

كما يقال، "الإعلامي مرآة عصره"، و"المؤرخ شاهد حقبته"، و"السياسي أسير ظرفه"، و"الصوفي غارق في وقته"، كذلك "الفيلسوف أسير ساعته الراهنة"؛ لكن ينبغي الإقرار بأن لكل فرد من هؤلاء بصمته الزمنية الفريدة، وخياراته المنهجية المتميزة، وغاياته المعرفية السامية؛ ولهذا السبب، أجدني منقادًا، تحت وطأة الضمير الحي وثقل المسؤولية التي تحملها الإنسان منذ الأزل، إلى الانخراط في "التأمل العميق" في "الحدث الجلل" الذي يطبع الساعة التي نعيشها.

بات من البديهي أن الحدث الأبرز الذي يشغل الساعة هو "انبلاج الشر المستطير"؛ ولذلك، أطرح تساؤلات أوجز الإجابة عليها هنا؛ وتلك التساؤلات تدور حول المعاني التالية: ما الدلالة الكامنة وراء ظهور هذا الشر الغاشم؟ وما طبيعته الجوهرية المتأصلة؟ وما الأسباب الخفية التي تقف وراءه؟ وما الآثار المترتبة عليه على المدى البعيد؟ وكيف السبيل إلى اتقاء شروره بقوة وعزيمة؟

ما معنى ظهور الشر المطلق؟

قد يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى وجود تناقض ظاهري بين مفهوم "الظهور" ومفهوم "الإطلاق"؛ فـ"المطلق" بطبيعته لا يظهر للعيان، و"الظاهر" لا يتحرر من كل قيد؛ بيد أن هذا التعارض يزول عندما ندرك أن "الشر المطلق" ليس كيانًا محددًا قائمًا بذاته في العالم الخارجي، بحيث يمكن الإشارة إليه أو مخاطبته، بل هو مجموعة من الأفعال الدنيئة التي تنطوي على أذى يتسم بثلاث صفات جلية:

أولها؛ أن هذا الأذى يعطل مقدرة العقل على الإدراك، فيعجز عن تصور هذا الإيذاء، فضلاً عن تصديقه؛ كما أنه يشل الإرادة، فلا تقوى على قصده، فضلاً عن اختياره.

وثانيها؛ أن هذا الإيذاء لا يعرف النفاذ ولا الانتهاء؛ فمهما حاولنا تفحُّص هذه الأعمال المؤذية من جميع الزوايا الممكنة، فإننا لا نجد فيها ذرة خير، بل كلما أمعنا النظر وتقليب الوجوه، ازداد الأذى في أعيننا ظهورًا وتجليًا؛ إذ يصبح الوجه اللاحق من كل عمل من هذه الأعمال أشد إيلامًا من الوجه الذي سبقه، بحيث يتضاعف الأذى في هذا العمل ويتعاظم إلى ما لا نهاية.

وثالثها؛ أن قدرة هذا الإيذاء على الظهور تتناسب طرديًا مع قدرته على التخفي؛ فكلما ازداد تمكن الشرير من العلم والتقنية، اتخذ الإيذاء صورًا خفية لا يمكن الانتباه إليها بحال من الأحوال؛ وهذا الخفاء لا يقل إيذاء عن الظهور، بل قد يكون أشد فتكًا وأكثر إيلامًا، لأن هذا الخفاء، في حقيقته، يُراد به من الشر ما لا يمكن تحقيقه بالظهور.

ما طبيعة "الشر المطلق" الجوهرية؟

يكفي، لتحديد هذه الطبيعة، أن نعود إلى المثال الأوضح لهذا الشر في هذه الحقبة، ألا وهو "القتل الجماعي المتعمد للأبرياء" [1]! وبما أن "الأطفال" يمثلون النموذج الأكمل للأبرياء، فإن طبيعة "الشر المطلق" تتبدى وتتضح بجلاء في "قتل الأطفال" أكثر من قتل غيرهم، وبالتالي، يجب علينا البحث عن عناصر هذه الطبيعة في "قتل الأطفال" على وجه التحديد.

أول هذه العناصر، أن القتل في حالة الطفل، وإن استهدف روحه، فإن المقصود الحقيقي هو إلحاق القتل بـ"البراءة" التي تتجسد فيها روحه؛ وقتل الروح ليس سوى وسيلة للوصول إلى قتل "البراءة"؛ فتُزهق "البراءة" بإزهاق "الروح".

والعنصر الثاني، أن "براءة" الطفل مستمدة من "الفطرة" التي خُلق عليها، بل إن "البراءة" هي تجسيد لـ"الفطرة"؛ وبالتالي، فإن قتل "البراءة" يعود في نهاية المطاف إلى قتل "الفطرة" ذاتها.

والعنصر الثالث، أن "الفطرة" هي "مستودع القيم" في أعماق الإنسان؛ وبالتالي، فإن قتل "الفطرة" هو بمثابة قتل للقيم جميعها.

وبناءً على هذه العناصر الثلاثة، يتضح أن "الشر المطلق" ليس مجرد زعزعة للقيم التي نعتنقها، بحيث يصح القول: "إن الشر المطلق هو أزمة قيم"، ولا هو حتى قلب للقيم إلى نقيضها، بحيث يصح القول: "إن الشر المطلق هو انقلاب للقيم"، بل هو على وجه التحديد قتل للقيم أو محوها بشكل يفقد فيه الإنسان القدرة على التمييز بين الخير والشر والحق والباطل، بحيث يصح القول: "إن الشر المطلق هو فتنة القيم".

وبناءً على هذا، فإن "الشر المطلق" في تصوري ليس هو "الشر المتأصل" عند الفيلسوف الألماني التنويري "كانط"، ولا هو "الشر المبتذل" عند الفيلسوفة ذات الأصل الألماني المعاصرة "أرندت"؛ إذ أن المقصود بـ"الشر المتأصل" هو كون الإنسان مفطورًا على الشر، بحيث يستحيل اقتلاعه من أعماقه؛ وهذا غير مسلَّم به، لأن الإنسان يتميز بجبلته المنفتحة، فهو يحمل في قرارة نفسه استعدادات للخير كما يحمل استعدادات للشر؛ أما المقصود بـ"الشر المبتذل" فهو حال الإنسان الذي لا يعنيه سوى تنفيذ أوامر رؤسائه، متخليًا بشكل كامل عن إعمال فكره، وغير قادر على إصدار حكم أخلاقي على أفعاله؛ وهذه الحال تخص أفرادًا معينين أُوكلت إليهم مهمات محددة، بينما "الشر المطلق" هو حالة قصوى من الإيذاء تصيب عموم البشرية، يتسبب فيها أفراد أو جماعات يوظفون فكرهم المجرد لإلحاق الأذى المستمر بها، حتى يفقدونها القدرة على التوجه السليم [2].

ما هي الأسباب الخفية للشر المطلق؟

يكفي، لتوضيح هذه الأسباب، أن نتبين "ماهية" الإنسان في سياق هذا الشر؛ فهذا السياق يدفعنا إلى اكتشاف أن "الشر المطلق" لا يدمر فطرة الإنسان فحسب، بل يدمر أيضًا ماهيته؛ ويمكننا الاستدلال على ذلك بخطوتين:

أولاهما، أن ماهية الإنسان لا تتحدد، خلافًا للاعتقاد الشائع، بالعقل [3]، لأن الحيوان هو الآخر يعقل بقدر ما لديه، حتى لو سمي عقله بـ"الغريزة"، وإنما تتحدد بما أسميه "المواثقة"؛ فمن خصائص الإنسان أنه كائن تحيط به المواثيق من كل جانب؛ فلا يصدر عنه فعل إلا بميثاق، سواء تذكره أم لم يتذكره؛ فقد واثق ربه في الغيب؛ وواثق أنبياءه في الشهادة؛ وواثق مجتمعه نطقًا وسكوتًا؛ ولا ينفك يواثق نفسه سرًا وعلنًا؛ أو قل، بإيجاز، إن الإنسان كائن ميثاقي بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

والخطوة الثانية، أن أعم هذه المواثيق يتعلق بإرادة الإنسان، إذ تعهد لربه بأن يجعل إرادته موافقة لإرادته، علمًا بأن "الإرادة" هي أصل "الحرية"، وأن "الحرية" هي أساس "المسؤولية"؛ وهذا الميثاق هو "ميثاق إلهي" نعلم يقينًا بوجوده، وإن كنا لا نعلم كيفية هذا الوجود، وقد نسميه "ميثاق الإرادة" [4]؛ ولما كان أعم المواثيق، فإنه إذا انْتُقِض، انتقضتْ باقي المواثيق.

وعندها، يتبين أن السبب الرئيس لـ"الشر المطلق"، باعتباره مُتلفًا لماهية الإنسان، هو كونه ينقض "ميثاق الإرادة"؛ وفي نقضه لهذا الميثاق الإلهي، فإنه ينقض كل المواثيق التي تحدد ماهية الإنسان، إلهيِّها وإنسيّها، خاصّها وعامّها، شاهدِها وغائبِها، جليّها وخفيّها؛ وهكذا، فإن "الشر المطلق" يخرج مرتكبه من "عالم الميثاق" إلى عالم لا ميثاق فيه بالمرة، أي لا إنسان فيه، فوجود الإنسان قائم بوجود الميثاق.

ما هي الآثار البعيدة للشر المطلق؟

أقتصر هنا على الوقوف عند نوعين بارزين من هذه الآثار، أحدهما: "آثاره البعيدة بالنسبة للشرير"؛ والثاني، "آثاره البعيدة بالنسبة للشعب المبتلى بهذا الشر"؛ والمقصود بـ"البعيدة" أن ملاحظة هذه الآثار قد لا تكون مباشرة، وأن ظهورها قد يستغرق وقتًا طويلاً، وأن إمكان إخفائها، بل، إمكان إنكارها، وارد.

أما عن "الآثار البعيدة للشر المطلق بالنسبة للشرير"، فإن الشر المطلق ينزع عن مرتكبه رداء الإنسانية بالكامل؛ ومعلوم أن المنسلخ من إنسانيته، وإن احتفظ بهيئة الإنسان، فإنه يفقد روحه؛ فمداركه تصبح مختلفة عن مدارك سواه من الناس، حتى لو اتحد موضوع الإدراك عندهما، فعقله يجرّد المدرَكات من كل قيمها، فأساس العقل المجرد هو "الفصل" بين المدرَكات؛ كما أن مشاعر المنسلخ من إنسانيته تصبح مختلفة عن مشاعر سواه من الناس، حتى لو اتحد مجال الشعور عندهما، فوجدانه يقطع عن الأشياء المشعور بها كل صلاتها، فأساس الوجدان الحي هو "الوصل".

وأما عن الآثار البعيدة للشر المطلق بالنسبة للشعب المبتلى بهذا الشر، فإن تحمل أفراد هذا الشعب لـ"الشر المطلق" ينزلهم المراتب الثلاث الآتية:

أولها، أنه يجعل منهم آيات في "خُلُق الائتمان"، فعلاقتهم بالأشياء، على قلتها، تبدو وكأنها لم تكن أبدًا علاقة حيازة، وإنما علاقة أمانة؛ فما يقع بين أيديهم لا يأمنون بقاءه، بل لا يحرصون على بقائه ما دام هذا البقاء يُشعر بالحيازة؛ وما خرج من أيديهم اعتبروه أمانات حان أوان ردها إلى أصحابها.

والثانية، أن "خُلق الائتمان" يورثهم سموًا روحيًا لو أن الجبال حازته لارتقوا إلى السماء، وإلا فإنه يرقى بهم إلى رتبة الكمال الإنساني، بحيث يصبحون قدوة لغيرهم.

والثالثة، أن مقام "القدوة" يؤهلهم لإحداث الثورة القيمية الضرورية للإنسانية لإنقاذ نفسها من شبح "الشر المطلق" الذي يتربص بها، ذلك أن هذا الشبح يكمن في صميم قدراتها العلمية والتقنية ذاتها؛ فما لم تظل هذه القدرات، وهي في ازدياد مستمر، مُسدَّدة بالقيم المناسبة لكل مرحلة من مراحلها، فلا مأمن من إطلاق شرورها المستطيرة في أية لحظة، ليس فقط لكي يفتك بأمة مستضعفة هنا أو هناك دون حسيب أو رقيب كما يحدث في هذه الساعة، وإنما ليجرب مطلقات شروره، حتى لو كان ذلك بمحو العالم بأكمله.

كيف نتقي هذا الشر بقوة؟

أؤكد أنه لا توجد مسؤولية أثقل ولا ألزم على عاتق الإنسان من مسؤولية التصدي لـ"الشر المطلق"، وذلك بموجب المصدرين الحاكمين اللذين هما: "النظر" و"الخبر" [5].

أما من جانب الحاكم الخبري، فقد أُخبرنا أن "قتل النفس بغير حق" يرقى إلى "قتل الناس جميعًا" [6]، ويترتب على هذا الخبر وجود "المسؤولية عن كل الناس جميعًا، أفرادًا وجماعات"، تعظيمًا للروح؛ كما أُخبرنا أن "قتل المسلم" يرقى إلى "هدم الكعبة" [7]، ويترتب على هذا الخبر الثاني وجود "المسؤولية عن الكعبة"، تعظيمًا لها"؛ وليست هذه المسؤولية من جنس المسؤوليات المعلومة بين "سدانة" و"سقاية" و"وفادة" ومثيلاتها، وإنما هي "مسؤولية معنوية"؛ فالـ"الكعبة" هي، في الحقيقة، مستودع القيم في الظاهر، بدليل استمرار استقبالنا لها، وما كانت لتُستقبَل على الدوام لولا أنها بيت يجسد القيم في الأرض؛ وبما أن "الكعبة" مستودع القيم في الظاهر، فإن "المسؤولية عن الكعبة" تعود إلى "المسؤولية عن ظاهر القيم".

وأما من جانب الحاكم النظري، فقد تبين أن "قتل الروح" البريئة هو "قتل للفطرة"؛ وعندئذ، تتعين المسؤولية عن الفطرة؛ كما تبين أن "قتل الفطرة" هو قتل للقيم كلها؛ وحينها، تتعين "المسؤولية عن القيم"؛ وبما أن الفطرة هي مستودع القيم في الباطن، فإن "المسؤولية عن الفطرة" تعود إلى "المسؤولية عن باطن القيم".

وبناءً على هذين المصدرين: "الخبر" و"النظر"، يجوز لنا أن نقول: "إن الكعبة هي الفطرة في الظاهر"، أو نقول: "إن الكعبة ظاهر الفطرة"؛ كما يجوز لنا أن نقول: "إن الفطرة هي الكعبة في الباطن"، أو نقول: "إن الفطرة هي باطن الكعبة".

ومن هنا، يمكن حصر المسؤوليات التي يوجبها التصدي للشر المطلق في مسؤوليتين عظيمتين، وهما: "المسؤولية عن الناس جميعًا، أفرادًا وجماعات"، و"المسؤولية عن القيم جميعًا، ظاهرًا وباطنًا".

أما "المسؤولية عن الناس جميعًا، أفرادًا وجماعات"، فإنها توجب الإقرار بأن الشر المطلق حيثما حل، فإن أمره يتعلق بالضرورة بالإنسانية جمعاء، نظرًا لأنه يقوض مواثيقها، ويهدد مصيرها؛ لذا، ينبغي اتخاذ كافة الوسائل لدفع هذا الشر على مستوى العالم بكافة مؤسساته، وتشارك فيه جميع الأمم بكل مقدراتها، وليس على مستوى المكان الذي وقع فيه أو الشعب الذي طاله، لأن هذه المواثيق لا تتعلق بهم وحدهم، فضلاً عن أن وسائل دفعه تتعدى طاقتهم.

وأما عن "المسؤولية عن القيم جميعًا، ظاهرًا وباطنًا"، فيجب التنبيه إلى حقيقة أساسية، وهي أن الشر المطلق، في هذه الساعة، يقع في زمن أخلاقي مخصوص، وهو "زمن المسلمين"؛ فلكل دين زمنه الأخلاقي الذي يمتد من ظهور هذا الدين إلى حين مجيء الدين اللاحق، بحيث يكون المتدينون به هم الذين يتحملون المسؤولية عن القيم في العالم أجمع؛ وعلى هذا الأساس، وبما أن الزمن الأخلاقي الراهن هو زمن الإسلام، بحكم خاتمية هذا الدين، فإن المسؤولية عن القيم في العالم تقع بالأصالة على المسلمين، وبالتبعية على غيرهم من الأمم الأخرى.

وإذا كان الأمر كذلك، فإنه يجب أن يكون المتصدرون للمواجهة القيمية لـ"الشر المطلق" في أي مكان في العالم يحدث فيه، وبحق أي شعب يتعرض له، مسلمًا كان أو غير مسلم، هم "المسلمون" قبل غيرهم؛ كما يجب أن تكون هذه المواجهة ذات مكونين اثنين: "مادي" و"معنوي"؛ فالمقصود بـ"ظاهر القيم" هو الوسائل المادية التي ينبغي أن يكون المسلمون سباقين إلى توفيرها للشعب المبتلى، حتى يتمكن من التصدي للمفاسد الظاهرة لـ"الشر المطلق"؛ والمقصود بـ"باطن القيم" هو الوسائل المعنوية التي يجب أن يكون المسلمون سباقين إلى مد الشعب المبتلى بها، حتى يقوى على التصدي للمفاسد الباطنة لـ"الشر المطلق".

ولا بد من التأكيد على أن مواجهة "الشر المطلق"، ما لم تتم وفق متطلبات الزمن الأخلاقي الخاتم على النحو المذكور، فسيبقى "الشر المطلق" يهدد شعوب العالم قاطبة؛ فليس للعالم من سبيل لاتقاء "الشر المطلق" إلا بالعودة إلى "قانون الفطرة"، بدلاً من البقاء في "فوضى الغريزة"؛ ولا عودة ممكنة إلى هذا القانون الفطري إلا باستعادة المواثيق المنقوضة؛ وهذه الاستعادة الميثاقية هي تحديدًا ما يتميز به الزمن الأخلاقي الخاتم من قدرة على الاضطلاع بها على أكمل وجه.

وعلى وجه الإجمال، فإن الفيلسوف مدعو إلى التفكر مليًا في أحداث الساعة التي يعيشها، ولا يوجد حدث أعظم في هذه الساعة من "الشر المطلق"؛ فهذا الشر المستطير يظهر في أعمال مؤذية يعجز العقل عن تصور أذاها ولا يقدر عليه، ولا تنتهي وجوهه، ويتضاعف ظهوره بتخفيه، وجوهر هذا الشر هو "إتلاف الفطرة"، والسبب الكامن وراءه هو "إبطال المواثيق"؛ وآثاره البعيدة تتمثل في انسلاخ الشرير عن الإنسانية، بينما تتمثل، على النقيض من ذلك، في تلبس من يؤذيهم بأخلاق الائتمان والسمو الروحي وفي تحولهم إلى قدوات للعالم؛ وبذلك، فهم يمثلون "ثورة القيم" الحقيقية، وهي الثورة التي تحتاجها الإنسانية بشدة لإنقاذ نفسها من "الشر المطلق"، وذلك بسبب التقدم العلمي والتقني الهائل والمذهل الذي حققته.

ولا يمكن اتقاء "الشر المطلق" إلا بالجمع بين المسؤوليات التي جاء بها "الخبر" والمسؤوليات التي توصل إليها "النظر"؛ وتتصدرها مسؤوليتان اثنتان: أولاهما، "المسؤولية عن الناس جميعًا، أفرادًا وجماعات"، وهي توجب على العالم بأسره تحديد وتوفير الوسائل الكفيلة بدفع "الشر المطلق"، بدءًا باستئصال أسبابه، وانتهاء بالقصاص من المتسبب فيه؛ وثانيتهما، "المسؤولية عن القيم جميعًا، ظاهرًا وباطنًا"، وهي توجب أن يكون للمسلمين السبْق، بحكم خاتمية زمنهم الأخلاقي، في تزويد الشعب المبتلى بهذا الشر المستطير بالوسائل المادية والمعنوية، حتى يتمكنوا من مواجهة أذاه الذي لا يوصف، بل لا يقال؛ وفي استمرار هذه المواجهة وحدها تكمن فرص بقاء العالم، وإلا فمصيره الفناء المحتوم.
_______________________

[1] أو قل "الإبادة الجماعية".

[2] نميز بين نوعين من التفكير: "التفكير المجرد" و"التفكير المسدد"، بينما "أرندت" لا تميز بينهما؛ فصاحب "الشر المطلق" يفقد التفكير المسدد، بينما يحتفظ بالتفكير المجرد، بينما صاحب "الشر المبتذل" يفقد عموم التفكير.

[3] المقصود هنا "العقل المجرد"، أي العقل المعزول عن إدراك القيم.

[4] سبق أن وضعت له، في مؤلفاتي السابقة، اسم "ميثاق الاستئمان".

[5] أو قل "النقل" و"العقل"؛ وأشير إلى أن النقل ليس نقيضًا للعقل؛ ففي النقل عقل، والمراد به النص أو الخبر؛ والخبر لا يخلو من العقل، بل قد يكون الخبر عقليًا بالكلية، وخبَريته لا تقوم إلا في كونه منقولًا أو مرويًا عن أحد.

[6] تدبر الآية 32، سورة المائدة: "مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا".

[7] أخرج ابن ماجه أن ابن عمر قال: "رأيت رسول الله ﷺ يطوف بالكعبة، ويقول: ما أطيبك، وأطيب ريحك! ما أعظمك، وأعظم حرمتك! والذي نفس محمد بيده، لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك، ماله، ودمه"؛ كما أورد الطبراني في الصغير عن أنس مرفوعًا، أن رسول الله ﷺ قال: "من آذى مسلمًا بغير حق، فكأنما هدم بيت الله".

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة